مكتشفات أثرية سودانية:
اللغة الكوشية «المروية»: أول اهتداء لمبدأ الأبجدية في أفريقيا جنوب الصحراء «1-2»
بروفيسور عبد الرحيم محمد خبير ****
مقدمة:
شهد السودان القديم «كوش» ظهور العديد من الحضارات التي أدت أدواراً جد مهمة في مسار الحضارة الإنسانية منذ فجر ما قبل التاريخ في وادي النيل والعالم القديم. وعرف السودان الدولة كبنية سياسية مؤسسية ومشروعية سلطة منذ ما يربو على أربعة آلاف عام بظهور دولة كوش الأولى «مملكة كرمة» التي بسطت ظل سلطتها على شمال السودان الحالي وكل منطقة النوبة «2500-1500 ق.م.» وفي عهد دولة كوش الثانية «مملكة مروي» «900 ق.م-350م» بلغت الدولة السودانية أقصى اتساع لها حيث كانت تمتد في أوج ازدهارها من شواطئ البحر الأبيض المتوسط «مصر» شمالاً إلى ضفاف النيل الأبيض «الكوة» والنيل الأزرق «جبل موية» جنوباً.
ورفدتنا المكتشفات الأثرية بمعلومات ثرَّة عن المنجزات الحضارية التي اجترحها السودانيون والتي شملت تقنيات الفخار والمعادن «النحاس والحديد» وفنون النحت والعمارة والموسيقى وغيرها. وتوجت هذه المساهمات الحضارية بالمعرفة الباكرة لنظام متقدم في الكتابة الأبجدية «الخط المروي الاختزالي».
ولعل المأمول من هذا المقال تقديم المعلومة العلمية من تراثنا التليد مفعمة بأريج الحس الوطني لأجيالنا الجديدة كيما تتشبع بشكل كاف بعاطفة الانتماء لتراب هذا الوطن المعطاء الذي لعب دوراً بارزاً في خارطة التاريخ الإنساني بفضل حزمة قواسم مشتركة «إثنية ولغوية وثقافية-اجتماعية وسياسية» كانت الدافع الأسمى صوب مشاريع النهوض الحضاري للدولة السودانية الموحدة والتي كشفت عنها الحفريات الآثارية والسجلات التاريخية. وستقتصر هذه الدراسة الموجزة على أحد أبرز المنجزات الفكرية لأهل السودان والتي كانت لهم فيها ريادة على مستوى القارة الأفريقية ألا وهي الكتابة الأبجدية.
ابتدع قدماء السودانيين الأبجدية المروية «الخط الاختزالي- Cursive» التي تعتبر أحد الأشكال المتطورة للكتابة في الشرق الأدنى القديم. ولا يعرف على وجه الدقة متى كتب السودانيون باللغة المروية لأول مرة ذلك لعدم توفر المادة المكتوبة بصورة متصلة خلال أحقاب مختلفة للعهد المروي «900 ق.م- 350م». وثمة إشارة هنا وهي أن المعلومات المتوفرة لدينا عن الفترة ما بين القرنين الرابع والثاني قبل الميلاد تقل فيها المخطوطات المروية بشكل واضح رغم أنها تعتبر من أهم مراحل تاريخ السودان الثقافي لأنها الفترة التي ظهر فيها الخط المروي وشهدت تغيرات ثقافية مهمة، ولا يعرف ماهية هذه التغيرات وتطوراتها رغم معرفة حدوثها من نتائجها وأهمها الكتابة المروية بخطيها الهيروغليفي والمختزل «أنظر شكل: 1». ونلحظ أن أقدم شيء مكتوب باللغة المروية هو اسم الملكة شناكداخيتي- Shanakdakhete «180-170ق.م.»، أما أحدث النصوص المروية- الهيروغليفية فيرجع إلى زمن الملك تاركنوال- Tarekeniwal «85-103م» والتي عثر عليها على بوابة المقصورة المتصلة بهرمه «رقم 19» في مروي القديمة «البجراوية» . أما أقدم نص كتب بالخط المروي-المختزل هو نقش الملك تنييدمني «120-100ق.م.» وهو نقش طويل يتكون من 160 سطراً عثر عليه في معبد آمون «850» عند جبل البركل. ويجدر التنويه إلى أن أسماء بعض الأعلام المروية تحتوي على مكونات مروية في تركيب نحوي مروي مثل اسم «كوشتو» أول ملوك الأسرة السودانية الحاكمة في مروي، فضلاً عن أسماء أخرى مثل تن-أمن وقور-تن-أمن. وهذه الحقيقة دفعت بعض الباحثين إلى الزعم بأن اللغة المروية ربما كانت لغة السودانيين منذ عهد مملكة كوش الأولى- كرمة «2500-1500ق.م.» ، وإن لم يتمكن السودانيون من كتابة هذه اللغة إلا في الفترة المتأخرة لدولة كوش الثانية- مروي «منتصف القرن الثاني قبل الميلاد».
ويبدو أن الضعف المضطرد الذي اعترى التواصل الثقافي بين مملكة مروي ومصر الفرعونية منذ أن تقهقر السودانيون عن مصر عام 663ق.م، فضلاً عن فترات الحكم الأجنبي على مصر منذ ذلك الحين «الأشوريون والفرس والإغريق والرومان» والتي أضعفت مكانة اللغة الهيروغليفية، كانت كلها عوامل أدت في نهاية المطاف «منتصف القرن الثاني قبل الميلاد» إلى ابتداع الأبجدية المروية بدلاً من الاعتماد الوحيد على اللغة المصرية القديمة «الهيروغليفية» .
وتتوزع المخطوطات المروية على امتداد مناطق انتشار الحضارة المروية ما بين جزيرة فيلة «قرب أسوان» وحتى سوبا قرب الخرطوم. ففي النوبة السودانية «النوبة العليا» عثر على العديد من النصوص الدينية والمدنية في جبل البركل، صلب، الكوة، صادنقا، جزيرة صاي، عمارة وبوهين في أقصى شمال السودان. ووجدت أيضاً العديد من النصوص في مروي «البجراوية» والنقعة وود بانقا في أواسط البلاد. أما في النوبة المصرية «النوبة السفلى» فقد عثر على النصوص المروية في كل من شبلول، كرنوق، بلانة وقسطل وأبو سمبل ووادي السبوع ودوطة وعنيبة وكلابشة.
وقد كانت اللغة المروية هي لغة العامة اليومية. بيد أن السودانيين الذين أقاموا في النوبة السفلى في مناطق الحصون الفرعونية المصرية كانوا يتكلمون إلى جانب لغتهم المحلية «المروية» اللغة المصرية القديمة. هذا بوجه عام، ومن حيث الخصوص فإنه من شبه المؤكد أن بعض السودانيين ذوي الجاه والذين تأثروا بالثقافة المصرية كانوا، يتكلمون اللغة المصرية القديمة وربما يقرءونها ويكتبونها. أما الملوك المرويون فقد كانوا إلى جانب تخاطبهم بلغتهم المحلية «المروية» على دراية كبيرة باللغة المصرية والخط الهيروغليفي ابتداءً من الملك المؤسس لدولة كوش الثانية «مروي»، كوشتو وخلفائه بعنخي وشباكو وشبتكو وتهراقا وتانوت-أماني ورصفائهم الذين كونوا الأسرة المعروفة في التاريخ المصري بالأسرة الخامسة والعشرين. وقد ترك لنا هؤلاء الملوك نقوشاً كثيرة مكتوبة بالخط الهيروغليفي في معظمها، في غاية الجودة والدقة من حيث المفردات والقواعد النحوية والأسلوب وهي أقرب إلى لغة المملكة المصرية الوسطى «1991-1600ق.م.».
وتفريعاً على ما تقدم، فإن المرويين قد ابتدعوا نوعين من الخط، أحدهما هيروغليفي «برموز مصورة» والآخر يسمى المختزل اصطلاحاً «Cursive» وكلاهما منحدران عن أصول مصرية، فالأول منحدر عن الكتابة الهيروغليفية والثاني منحدر عن الكتابتين الهيراطيقية والديموطيقية.
ويتضح مما أوردناه آنفاً أن اللغة المروية كانت لغة التخاطب لعامة الناس الذين تسموا بالأسماء المروية وتخاطبوا بها فيما بينهم. أما اللغة الرسمية، لغة التوثيق والتدوين فهي اللغة المصرية القديمة بخطها الهيروغليفي، فقد تخاطب بها أفراد الأسرة الحاكمة وموظفو الدولة وبعض المتعلمين المرويين. وتجدر الإشارة إلى أن الشواهد اللغوية المتواترة تشير إلى وضع لغوي مركب إبان العهد المروي. ومن المؤكد أنه برغم أن اللغة الأكثر تداولاً كانت هي اللغة المروية، فهناك أيضاً لغات ولهجات عديدة خلافاً للمروية، فكانت للبجة بشرق السودان لغتهم وهم من رعايا الدولة المروية، ثم النوبيون وغيرهم من القبائل الأخرى لهم لغاتهم الخاصة، وكانوا جميعاً يعيشون مع المرويين ويختلطون بهم في مناطق المملكة المروية المترامية الأطراف كما هو جلي من المدونات والرسومات وغيرها.
**** عميد كلية الآداب بجامعة جوبا.

(Nubian cultural Society In France)