تتويج لفريق العمل نقب لأكثر من 43 عاما

قصة مثيرة لاكتشاف تماثيل الفراعنة السود في شمال السودان

كرمة من محمد شريف
صحيفه الايام

اكتشاف تماثيل الفراعنة السود في موقع (دوكي قيل) تتويج لعمل شارل بوني والفريق السويسري في منطقة كرمة بالسودان لأكثر من 43 عاما، وخطوة لتصحيح مفهوم تاريخ المنطقة. موقع تقاسمه الفراعنة المصريون الى جانب ملوك النوبة واحتفظ بمعالم هي بقايا الغزو المصري لشمال السودان ولكن وجدت به أيضا معالم عمرانية تميز قوة وعظمة الحضارة النوبية في عهد مملكة كرمة. دوكي قيل، أو الهضبة الحمراء باللغة النوبية، هو الموقع الثاني الذي نقب فيه الباحث السويسري شارل بوني ومازال لحد اليوم يواصل أعمال تنقيبه فيه. وقد اشتق إسمه من بقايا قوالب الفخار الحمراء التي كانت تستخدم لصنع الخبز المقدم في القداس الديني والتي كانت تكسر بعد ذلك لتخلف مشهد هضبة ذات لون أحمر. وتتمثل أعمال التنقيب المستمرة حاليا ، في الكشف عن أسس أسوار دائرية كانت تستخدم كجدران دفاعية عن المعابد المتعددة بالمنطقة. وحتى ولو أن الموقع شهد تنقيب بحاثة من قبل مثل الأمريكي جورج رايسنر في العشرينات من القرن الماضي، فإنه احتفظ بأسراره الى ان تمكن شارل بوني وفريقه في11 يناير 2003 من اكتشاف تماثيل الفراعنة السود الذين حكموا المنطقة، ومنهم من حكم أقساما من مصر في نفس الوقت. وهو الاكتشاف الذي كما سنرى ستكون له تأثيرات لا محالة على طريقة فهمنا لتاريخ المنطقة. إهتمام شارل بوني بالتنقيب في موقع دوكي قيل يعود لكونه موقعا يعكس مآثر مهمة بالنسبة للحضارة المصرية نظرا لكون كافة فراعنة العائلة الثامنة عشرة أي ما بين 1480 قبل الميلاد حتى 1200 ممثلين في هذا الموقع مثل توتموزيد وآمينوفيس وآخناتون والملكة حتشبسوت. ولكن ما هو أهم في نظر شارل بوني رغم هذا التواجد لآثار مصرية بالمنطقة ( هو تلك البقايا لحضارة نوبية عايشت هذا الغزو المصري لشمال السودان) ومن الدلائل بالموقع على بقايا حضارة نوبية خالصة غير متأثرة بالحضارة المصرية معبد دائري الشكل على غرار ما هو موجود في روما واليونان، يقول عنه شارل بوني ( أنه لا يوجد مثيل له في باقي المناطق الفرعونية المصرية) والخلاصة التي يستخلصها شارل بوني ( هو أنه على الرغم من التأثير الفرعوني المصري، تم قبول بناء معبد بمواصفات محلية مخصص لآله محلي او إقليمي) من النتائج المهمة التي حققها شارل بوني طوال هذه الفترة الطويلة من التنقيب الأثري في شمال السودان عثوره بمحض الصدفة على سبعة تماثيل لفراعنة سود حكموا المنطقة. عن هذا الاكتشاف يقول شارل بوني ( لقد حالفنا الحظ لكي نعثر في بئر قطره ثلاثة أمتار وعن عمق مترين على قطع مكسرة لسبعة تماثيل هامة لكبار ملوك الفترة التي كان فيها الفراعنة يحكمون كلا من مصر والسودان في آن واحد) هذه التماثيل تمثل الملك تهرقا بعلو متريين وثمانين والى جانبه تمثالين لتانوت آمون. وأمامهما الملوك الذين حكموا بعدهم من أمثال سنكمانيسكن الى اليمين وأمامه تا ان وآتي آمن بغطاء رأسه المتميز. أما التمثال الصغير فهو للملك آسبلتا الذي حكم المنطقة لأكثر من 25 سنة بعد سقوط كرمة و نقل العاصمة الى جبل بركل قبل أن يعيد مجد النوبة بعد نهاية الغزو المصري. وقد تم تركيب قطع التماثيل من قبل الخبير الألماني ماركوس بلود بنوع من الصعوبة قبل عرضها كقطع أصلية في متحف الحضارات في كرمة وهو المتحف الذي أقيم بمجهود سوداني وسويسري لعرض كل ما تم العثور عليه من قبل فريق البحث السويسري في كرمة والذي افتتحه الرئيس السوداني الفريق عمر حسن البشير في التاسع عشر يناير 2008. لكن المعلومة الأهم التي تم استخلاصها من اكتشاف التماثيل السبعة، تكمن في معرفة أسباب تحطيمهم خصوصا وأن منقبين سابقين مثل جورج رايسنر عثروا على مخابئ مماثلة في جبل بركل وتساءلوا عن سبب تحطيم تماثيل ملوك المنطقة. الجواب على هذه التساؤلات يستخلصه شارل بوني من نتائج أبحاثه في دوكي قيل وهو أن دوكي قيل تعرضت لعملية تدمير في العام 591 ق.م على يد بسماتيك الثاني عندما تمكن من استعادة السيطرة على المنطقة بعد أن كان هؤلاء الفراعنة السود يحكمون السودان ومصر وكان من نتائج ذلك محو أسماء كل الملوك الكوشيين من المعالم الموجدة في مصر، وتنظيم حملة عسكرية ( أو حملتين) أدت الى تدمير مدينة كرمة. وهي الفترة التي تم فيها تحطيم تماثيل الفراعنة السود بهدف محو كل آثار سلطة وحكم الفراعنة السود. ويقول شارل بوني " أن الذي تلقى أمر تحطيم التماثيل قد يكون نحاتا محترفا صعب عليه تحطيم تحف من هذا النوع". ولكن تدمير مدينة كرمة لم يعمل على تدمير المملكة النوبية التي انسحبت الى داخل الأراضي النوبية بقيادة الملك آسبلتا. وهو الذي استطاع بعد عشرين عاما من ذلك استعادة زمام الأمور وأعاد بناء كرمة. و قد يكون هو الذي أمر بدفن بقايا التماثيل السبعة تقديسا لأرواح أجداده. عن التقييم العلمي لنتائج هذه الأبحاث التي قام بها شارل بوني في السودان عموما والتماثيل السبعة بالخصوص، يجيب شارل بوني بتواضع العلماء" أن هذا الاكتشاف لا يجلب الكثير من الناحية التاريخية، لأن العمل الدقيق الذي قمنا به منذ ثلاثين عاما في المدينة النوبية يكون قد جلب الكثير من المعلومات الأهم، ولكن هؤلاء الفراعنة الذين كنا نعرف تاريخهم لأنه تم العثور على ألواح تشرح ذلك، لم نكن نعرف ملامح العديد منهم) ( يضاف الى ذلك " أن تواجد سبعة ثماثيل لملوك حكموا المنطقة لفترة تمتد ما بين 690 و 590 ق.م مهم من الناحية الفنية لمعرفة تطور فن النحت) لكن الدكتور صلاح الدين محمد أحمد، أمين أمانة الآثار بالمتحف الوطني في الخرطوم، والذي ساهم في عمليات تنقيب شارل بوني لأكثر من عشرين عاما يرى ( إن ما أُنجز من نتائج علمية حول حضارة كرمة، يعتبر من أروع وأجمل ما أكتشف خلال المائة عام الأخيرة من أعمال البحث والتنقيب في السودان) وعن أهمية هذه الاكتشافات بالنسبة لحضارة المنطقة يقول الدكتور صلاح الدين ( أن حضارة كرمة بارتباطها بحضارة مصر الفرعونية من جهة وبالحضارات الجنوبية في وسط إفريقيا تشكل إشكالية علمية بالنسبة للأثريين الذين كانوا يعتقدون بأن حضارة كرمة ما هي إلا امتداد للحضارة الفرعونية... لكن أعمال بعض البحاثة من ضمنهم شارل بوني أوضحت بوضوح بأن حضارة كرمة ، حتى ولو تأثرت بالحضارة المصرية وأثرت فيها ، فإنها كانت حضارة سودانية خالصة ومن حكموها كانوا سودانيين) ويصل في تقييمه الى حد القول ( إن ما توصل إليه شارل بوني والبعثة السويسرية كان بمثابة ثورة في مفهومنا حول هذه الحضارة التي تعتبر الجذور الأساسية للشعب السوداني) ويعتبر الدكتور صلاح أن المجموعة العلمية الموجود منها أكثر من 40 بعثة تنقيب في السودان، بدأت تنظر للحضارة النوبية في كرمة والحضارة المروية على أنها حضارة منفصلة عن الحضارة المصرية ، ولكل منها خصائصها رغم تأثر كل منها بالأخرى. ويستشهد على هذا الوعي بكون أغلب المتاحف كانت تعرض الآثار السودانية كجانب من الحضارة الفرعونية ولكن اليوم أصبحت هناك صالات عرض مخصصة للآثار النوبية السودانية. كما أسست فرق بحث خاصة بالحضارة النوبية. وعما إذا كان هذا الوعي قد انتقل الى الجمهور السوداني يقول الدكتور صلاح الدين( عندما بدأنا في البحث في كرمة كان السكان يتساءلون لماذا ننفق أموال الدولة السودانية والدولة السويسرية فيما لا فائدة منه). لكن ذلك تغير بعد اكتشاف التماثيل السبعة إذ يتذكر شارل بوني "أن سكان المنطقة توافدوا بالالآف لمتابعة عملية استخراج قطع التماثيل". ويشرح شارل بوني هذا التوافد الكبير للسكان ( لكون الاعتقاد السائد هنا كان يتمثل في أن معالم الحضارة منحصرة على مصر او على حوض البحر البيض المتوسط، ولكن هذا الاكتشاف دفع العديد منهم الى محاولة التعرف على تماثيل من هم بمثابة أجدادهم)
**** سويس انفو

كوش- النوبة : إشكالية التسمية

أسامة عبدالرحمن النور
ملخص الورقة
تحاول هذه الورقة مناقشة التسميات المختلفة التى أطلقت على السودان في الأزمان التاريخية المتعاقبة. استخدم المصريون القدماء عدداً من الأسماء التى أطلقها الملوك الكوشيون (السودانيون القدماء) أنفسهم على بلادهم. على سبيل المثال تسمية تا سيتى (أرض السهام) التى استخدمت بداية للدلالة على إقليم محدد من الأطراف الشمالية للسودان. من ثم انتشرت التسمية لتشمل القطر بأكمله. أيضاً استخدمت تسمية الواوات للدلالة على الأطراف الشمالية للسودان إلى جانب استخدام تسمية تا نحسى للدلالة على السودان ككل، وكلمة نحسى للإشارة إلى كافة الشعوب التى تعيش إلى الجنوب من مصر. أما الإغريق فإنهم منذ أزمان هوميروس قد أطلقوا على البلاد تسمية  "إثيوبيا" التى تعنى "ذو الشكل المحروق". وقد ثبت الكتاب الإغريق الحدود الشمالية لاثيوبيا في أسوان، في حين ظلت حدودها الجنوبية مجهولة لهم. أما تسمية النوبة التى تستخدم بكثرة أيضاً في الكتابات المتخصصة للدلالة على إثيوبيا النيلية (كوش) فإنها تظهر في فترة متأخرة . أول ذكر لبلاد النوبة نجده في أعمال الكتاب العرب. يحتمل أن يكون أولئك الكتاب قد استخدموا الصفة المصرية الشائعة في تلك الفترة للدلالة على المنطقة الواقعة إلى الجنوب من أسوان.

في القرن السادس عشر قبل الميلاد، واحتمالاً في وقت أسبق، بدأت في التلاحم والتوحد المشيخات الكوشية إلى الجنوب من مصر، تلك العملية التى قدر لها على مدى ثمانمائة عام ليس فقط أن تحكم قبضتها على كل وادي النيل من البطانة جنوباً حتى ساحل البحر الأبيض المتوسط شمالاً، بل وأن تدخل في تنافس مشهود مع الإمبراطورية الآشورية من أجل السيادة على سوريا وفلسطين يمكن القول بأن كوش ظهرت للمرة الأولى على مسرح السياسة الدوليَّة تحديداً تحت هذا الاسم منذ نهاية النصف الأول للألفية الثانية قبل الميلاد. وقد أطلق ملوك نبتة ومروى على بلادهم اسم كوش وهو ما فعله كل من أسبالتا، وهورسيوتف، ونستاسن. ورغم أن اسم كوش قد استخدمه المصريون إلى جانب أسماء أخرى منذ عهد المملكة الوسطى، وعنهم استخدمه الآشوريون والفرس في مدوناتهم، بل وبهذا الاسم ذكرت البلاد في الكتاب المقدس، فانه وفي أزمان لاحقة صارت الكتابات المتخصصة، بفعل تقليد يعود إلى الإغريق والرومان بداية وإلى الكتاب العرب في القرون الوسطى لاحقاً، تلجأ إلى استخدام تسمية إثيوبيا أوالنوبة للدلالة على كوش.من ثم يرى الكاتب أن تسمية النوبة المستخدمة حالياً للدلالة على اسم البلاد في الفترات التاريخية السابقة للقرن الخامس الميلادي، لا تتطابق مع الواقع الفعلي التاريخي. ويرى الكاتب أن تسمية النوبة تظهر للمرة الأولى فقط في العصور الوسطى، وتم اشتقاقها في الغالب الأعظم من قبائل النوبا أو النوباديين، الذين وصلت أول إشارة عنهم في القرن الثالث الميلادي. بهذا فإن استخدام تسمية النوبة بدلاً عن كوش لا يتطابق مع الواقع التاريخي، بالإضافة إلى أنه يثير بلبلة فيما يتعلق بالحدود الجغرافية ذلك أنه لم يتم إطلاقا إدخال البطانة في مفهوم النوبة. بالتالي فإن تطبيق اسم النوبة على أزمان مملكة مروى غير صحيح إطلاقاً. إنه حتى في أزمان الادريسى، حين أصبحت تسمية النوبة تفهم بمعنى أكثر اتساعا، فإنها كانت تشمل فقط شمال السودان حتى الجندل السادس جنوباً بمجرى النيل وهو ما يعنى استبعاد الصحراء على ضفتيه والجزيرة المرًّوية(البطانة).

فيما بين ملتقى النيلين الأبيض والأزرق عند الخرطوم في الجنوب، والجندل الأول عند أسوان في الشمال، يجرى النيل عبر أرض نعرفها حالياً "بالنوبة". بين مسافة وأخرى يعكر صفو جريان النيل سلاسل صخور جرانيتية أطلق عليها الكتاب العرب الأوائل نعت الجنادل، لكن شاع نعتها اليوم بالشلالات. يؤلف الجندل الأول منها بالقرب من أسوان حداً طبيعياً وفي الآن نفسه حاجزاً ثقافياً بين مصر والسودان. حالياً فان المنطقة الواقعة بين الجندل الأول وبين بطن الحجر إلى الجنوب مباشرةً منه يطلق عليها تسمية النوبة السفلى أو الشمالية. هنا يشكل نهر النيل وادياً ضيقاً بين تلال ومنحدرات صخرية شاهقة مُتشكلة من حجر رملي أحمر مع وجود رقع صغيرة من الأرض الصالحة للزراعة. أبعد إلى الجنوب، في الجزء المسمى النوبة العليا يتغير المنظر الطبيعي إلى مساحات مفتوحة كبيرة مع أرض مرويَّة تحدها الصحراء. فقط في منطقة الجنادل الثالث والرابع والخامس والسادس يصبح النيل ضيقاً مجدداً  ليتشكل منظر طبيعي أشبه إلى حد ما بأجزاء النوبة السفلى. وقد وصف إميل لودفيغ في كتابه "النيل : حياة نهر"، والذي ترجمه عادل زعيتر بأسلوبه النثري الرائع، منظر الجندل السادس (شلال السبلوقه):"واذا سرت من الخرطوم مرحلتين أو ثلاث مراحل؛ أي مسافة تسعين كيلو متر من مجرى النهر التحتاني؛ وجدت عرض النيل لا يزيد على خمسة وسبعين متراً وأبصرت عامودين من الحجر البركاني للدلالة على مدخل ضيق؛ وهذا هو مدخل الجندل؛ ويسميه الجغرافيون بالجندل السادس وذلك لأنهم عدوا الجنادل بادئين من مصر متوجهين إلى مجرى النهر الفوقاني؛ وأرانا مضطرين لمجاراتهم مع أن النهر يوصف كما توصف حياة الإنسان فلا يبدأ من خاتمتها"  لودفيغ

تتسع الأجزاء الجنوبية الأقصى للنوبة، السودان الأوسط، في الحزام الممطر مما يجعل السكان أقل اعتماداً على النيل وفيضانه السنوي. تسود هنا سافانا عشبية وتكثر أشجار السنط. بفعل هذه الاختلافات الجغرافية والمناخية كان تاريخ النوبة والسودان الأوسط مختلفاً عن تاريخ مصر. ففي حين كانت مصر متجانسة اثنيا وثقافياً على مدى آلاف السنوات؛ فإن أجزاء النوبة المختلفة استوعبت جماعات اثنية متنوعة في أزمان مختلفة. اليوم فإن الحد الجنوبي للجماعات الاثنية المتحدثة باللغة النوبية يقع بالقرب من الدبة في منتصف المسافة بين الجندلين الثالث والرابع. إلا أن هذه الجماعات كانت ممتدة في العصور الوسطى على طول وادي النيل من أسوان حتى الأطراف الشمالية للنيلين الأبيض والأزرق. 
إذا حاولنا العودة إلى مسألة تسمية "النوبة" فإنه يتضح عدم مطابقتها للواقع الفعلي التاريخي في الفترة الممتدة حتى القرن الخامس الميلادي. من ثمَّ نرى ضرورة التوقف لمناقشة هذه التسمية وتحديد المصطلحات بدقة أكثر. ففي نص يعود تاريخه إلى عصر سيادة الهكسوس في مصر ورد :" كيف لى أن أتحقق من سلطتي وهناك ملك يحكم في أفاريس وآخر في كوش وأظل أنا عاجز عن التصرف اذ يشاركني الحكم آسيوي وكوشي وكل منهما يمتلك جزءاً في مصر هذه". هكذا كانت كلمات كامس، آخر فراعنة الأسرة المصرية السابعة عشر، أمام حشدٍ من مستشاريه استعداداً لخوض معركة التحرير ضد الهكسوس. ويبدو أن كوش المشار اليها كانت دولة قوية فرضت على حاكم الهكسوس في أفاريس أن يسعى إلى ملكها طالباً المساندة والدعم له في حربه مع كامس. محتوى رسالة حاكم أفاريس الموجهة إلى حاكم كرمة رأي كامس أن يسجله في النقش الذى يحكى عن مآثره في الكرنك: "التقطت رسالة في جنوبي الواحات أثناء صعود حاملها إلى بلاد كوش واكتشفت أنه خطاب من ملك أفاريس بخط يده يقول فيه: عا اوسر رع أبيبى، ابن رع، يحى ابنه ملك كوش. لمَّ أعلنت نفسك ملكاً دون أن تحيطني علماً؟ وهل بلغك ما فعلته مصر معي؟ فالعاهل القائم عليها-كامس- فليوهب حياة وعمرا ! يشن الهجمات على ممتلكاتي رغم أنني لم أناصبه العداء. لقد عاملني كما عاملك  تماماً ! لقد وقع اختياره على بلدين لينشر فيهما الخراب بلدي وبلدك. وعاث فيهما فساداً. هيا ! احضر لا تخف ! انه هنا في الوقت الراهن حيث يتعقبني. فلا أحد يترقبك في مصر. ولن أتركه يرحل قبل وصولك". عندئذ توقفت العمليات الحربية بمعنى الكلمة. وعاد كامس إلى عاصمته طيبة لينقش قصة مآثره وبطولاته دون أن يشير إلى إنجاز نصر. أفلا يجوز أنه اكتفي، على أكثر تقدير، بأن أمنَّ لنفسه طريق القوافل قاطعاً الطريق بين الدلتا في الشمال وكوش في الجنوب؟
هكذا فانه وفي القرن السادس عشر قبل الميلاد، واحتمالاً في وقت أسبق، بدأت في التلاحم والتوحد المشيخات الكوشية إلى الجنوب من مصرO'Connor 1991، تلك العملية التى قدر لها على مدى ثمانمائة عام ليس فقط أن تحكم قبضتها على كل وادي النيل من البطانة جنوباً حتى ساحل البحر الأبيض المتوسط شمالاً، بل وأن تدخل في تنافس مشهود مع الإمبراطورية الآشورية من أجل السيادة على سوريا وفلسطين على نحو ما سنبين لاحقاً (انظر الأسرة الكوشية الخامسة والعشرين).


لذلك يمكن القول بأن كوش ظهرت للمرة الأولى على مسرح السياسة الدولية تحديداً تحت هذا الاسم منذ نهاية النصف الأول للألفية الثانية قبل الميلاد. وقد أطلق ملوك نبتة ومروى على بلادهم اسم كوش وهو ما فعله كل من أسبالتا، وهورسيوتف، ونستاسن. ورغم أن اسم كوش قد استخدمه المصريون إلى جانب أسماء أخرى منذ عهد المملكة الوسطى، وعنهم استخدمه الآشوريون والفرس في مدوناتهم، بل وبهذا الاسم ذكرت البلاد في الكتاب المقدس، فانه وفي أزمان لاحقة صارت الكتابات المتخصصة، بفعل تقليد يعود إلى الإغريق والرومان بداية وإلى الكتاب العرب في القرون الوسطى لاحقاً، تلجأ إلى استخدام تسمية إثيوبيا أوالنوبة للدلالة على كوش. فإلى أي مدى يمكن عد التسميتين مطابقتين للواقع، وما هو المعنى المضمن في كل منهما؟

كما هو معروف فإنَّ أول ذكر لإثيوبيا نجده عند هوميروس. وهناك اتفاق أن هذه التسمية مشتقة من كلمتين إغريقيتين: ايثو بمعنى يحرق، واوبس بمعنى مظهر أو شكل، أي أن معناها يصبح ذو الشكل المحروق. بهذا المعنى وردت إثيوبيا عند هوميروس،أي أنها تسمية أطلقت على البلاد انطلاقاً من معيار لون البشرة، مثلها مثل التسمية العربية للبلاد بالسودان،وهومعيار أنثروبولوجي. أما بلينى الأكبر فقد ربط تسمية إثيوبيا بالبطل الأسطوري إيثوبس ابن الاله زيوس، وفي ذلك إشارة إلى أن بليني احتفظ في تفسيره بعلاقة التسمية بالنار ذلك أن البحث الدقيق يمكن أن يكشف عن علاقة من حيث الدلالة والمعنى بين الشمس والنار الأبدية والناس من ذوي البشرة السمراء. 
شملت المعالجات القديمة لمفهوم إثيوبيا كل من الهند، وكوش، كما شملت أفريقيا والمناطق الأخرى التى عاش فيها الزنوج أو البربر. لكنه معلوم أن احتكاك الإغريق للمرة الأولى مع من هم من ذوي البشرة السمراء كان من خلال التقائهم بالكوشيين وهو ما أدى إلى تثبيت تسمية إثيوبيا على كوش. مع ذلك فانه تمَّ لاحقاً، كما هو الحال في الكتاب الثالث لهيرودوت، التمييز بين إثيوبيتين أو ثلاث. وإذا كانت الحدود الشمالية لإثيوبيا عند معظم الكتاب الإغريق تقع عند أسوان فان حدودها الجنوبية ظلت مجهولة بالنسبة لهم. يقول سترابو في كتابه الجغرافيا "لا نستطيع أن نسمى لا حدود إثيوبيا ولا حدود ليبيا ولا حتى الحدود الفعلية للمناطق المتاخمة لمصر". ومن رواية سترابو عن حملة قمبيز إلى مروى، ومن وصف هيرودوت، وأعمال بطليموس وغيرها من أعمال المؤرخين والجغرافيين الهلنستيين فإن مملكة مروى بالإضافة إلى المناطق الأبعد إلى الجنوب منها شُملت جميعها تحت تسمية إثيوبيا النيلية. من هنا يجوز القول بأن إثيوبيا النيلية تطابقت مع كوش مع أن الإغريق والرومان ضموا إلى التسمية مناطق واقعة إلى الجنوب مثل أدوليس وأكسوم، لكن كان ذلك في وقت متأخر عندما ضعفت العلاقات مع مملكة مروى. 

فيما يخص علماء الدراسات المصرية القديمة فإنهم أشاروا حتى وقت قريب بإثيوبيا إلى المنطقة الواقعة إلى الجنوب من النوبة السفلى الحالية. إلا أن ذلك خلق نوعاً من البلبلة بحيث نجد الكثير من الكتابات التاريخية المعاصرة (بخاصة المصرية) تترجم إثيوبيا بالحبشة. هكذا نجد أن الكثير من الكتب المصرية عن تاريخ مصر القديم تتحدث عن الأسرة الخامسة والعشرين (الكوشية أو الإثيوبية) واصفة إياها بالحبشية. كما تطال البلبلة مفهوم إثيوبي الذى قد يشمل كل من هو أسمر البشرة في أي بلد يقع مابين شمال غرب أفريقيا والهند وهو العالم المعروف للإغريق والرومان حينها. حالياً فإن تسمية إثيوبيا تطلق على أبيسينيا (الحبشة الحالية)، ويعتقد بأن اسم أبيسينيا جاء بنطقه هذا من طريقة النطق الأوربية لتسمية حبشة أوحبيش أوحبشات وهو اسم لقبيلة عربية وصلت إلى المنطقة من اليمن في القرن السادس، ويطلق الأبيسينيون (الأحباش) على أنفسهم اسم الإثيوبيين. لازالت مسألة التمسك بهذه التسمية غامضة. في الغالب ما يكون ذلك مرتبط بتقليد قديم يصعب تحديده بثقة. معروف فقط أن الرهبان، السوريين في الغالب، الذين قاموا بترجمة الكتاب المقدس إلى لغة الجيوز قد طابقوا كوش بابيسينيا وترجموا كوش بإثيوبيا، أما الكتاب العرب فإنهم ميزوا بدقة بين النوبة (كوش) وأبيسينياهكذا كتب الادريسى"تجار هذه المنطقة، وأبيسينيا، ومصر". 

أما تسمية النوبة التى تستخدم بكثرة أيضاً في الكتابات المتخصصة للدلالة على إثيوبيا النيلية (كوش) فانها تظهر في فترة متأخرة، ففي مقتطف من إراتسفين يقول أنه مأخوذ عن سترابو يرد للمرة الأولى اسم النوباى  [النوباويين] "جزء من الجانب الأيسر للنيل في ليبيا مأهول بقبيلة النوباويين الكبيرة الممتدة من مروى حتى انحناءة النيل. لا يخضع النوباويون للإثيوبيين لكنهم ينقسمون إلى عدة ممالك". إلا أن قول إراتسفين هذا يتناقض مع قول سترابو نفسه: "في الأجزاء الأخرى باتجاه الجنوب (يقصد من مصر) يعيش التروجلوديت، والبليميون، والنوباويون، والميجبارى. ويعيش الإثيوبيون إلى الجنوب من أسوان، وهؤلاء مراحيل"

اللافت للانتباه أنه في الحالتين إراتسفين وسترابو يوضع النوباويون بمواجهة الإثيوبيين، أي الكوشيين. تتوافق المعلومات المعروفة لبلينى عن النوباويين، والتى أخذها عن أجاثارخيد، مع معلومات سترابو. بهذا يمكن القول بأن النوباويين قد شغلوا المنطقة الواقعة إلى الغرب من النيل حتى انحناءة النيل الكبرى عند الدبة، وهى منطقة تتوافق حالياً مع إقليم الدناقلة الناطقين باللغة النوبية (اللهجة الدنقلاوية). في الوقت الراهن يطلق اسم النوبا على سكان جبال جنوب كردفان الذين يمثلون خليطاً من المجموعات الاثنية تغلب عليها الزنجوية ويتحدثون بلغات مختلفة. في أواسط القرن الثالث الميلادي شغل النوباى، وفق ما سجله بطليموس، الضفة الغربيَّة للنيل وجزره. في الغالب ما يعنيه بطليموس هو منطقة ممتدة من كردفان حتى النوبة السفلى الحالية. ومن إشارات أوردها بروكوبيوس نعرف أن الإمبراطور دوكليتيان استدعى في عام  292 م. النوباديين الذين يعيشون، حسب بروكوبيوس، في الواحة الخارجة وذلك للدفاع عن حدود مصر الجنوبية، وجعلهم يعيشون في الدوديكاسخيونس (الإقليم الثاني عشر لمصر الرومانية). إلا أنإشارات بروكوبيوس أثارت قدراً من التشكك لدى الباحثين الذين أشاروا إلى أن النوباديين قد ورَّد ذكرهم للمرة الأولى في بردية يعود تاريخها إلى عهد فيودوسيا الثاني 425-450 م. وكان ذلك في شكل أنوباديين. ويصف مونير دى فيلارد النوباديين بأنهم جماعة غير كبيرة من البربر من ذوى الأصول الليبية استقروا في النوبة وفقدوا لغتهم الأصلية. إلا أن هناك الكثير من الاعتراضات على مثل تلك الفرضية. فانطلاقاً من معطيات اللغة طرح كل من تسيلارز وهيللسون رأياً يقول بأن النوباديين قدموا من كردفان، واستقر الجزء الأساسي من قبائل النوبا الذين يؤلف النوباديون فرعاً منها هناك حتى القرن الميلادي الرابع حين اجتاحوا العاصمة مروى وتوغلوا جنوباً إلى منطقة الجزيرة، ومن ثم يطابق تسيلارز وهيللسون هؤلاء بالنوبة الزرق الذين أشار اليهم نص عيزانا، إلا أن آركل يرى أن النوباديين (النوباتيين) اسم مشتق من التسمية الجغرافية "نبتة" التى سماها بليني ناباتا.

 

ويعتقد آركل أن تسمية النوبة إنما تمثل اسماً قبلياً مثلها مثل أسماء أخرى في السودان الحالي: البرتى، والبرتا، والبورجو الخ. تأصلت عن الكلمة النوبية التى تعنى "عبيد"، ويرى أيضاً احتمال أن تكون كلمة نبو المصرية القديمة الدالة على الذهب مرتبطة بتسمية النوبا الذين تحصل المصريون منهم على الذهب للمرة الأولى ومن ثم عدوا من يجلبه لهم عبيداً. إلا أنَّ هذه الفرضية تواجه الكثير من الاعتراضات وذلك لثلاثة أسباب: الأول أن المصريين كانوا قد تعرفوا على الذهب بفترة طويلة سابقة لعصر المملكة المصرية الوسطى، فمنذ عصر المملكة المبكرة تورد النصوص كلمة "نبو"1963 Kaplony وثانياً فإن تسمية البلاد أو سكانها بالنوبة في الوثائق المصرية لا تقابلنا إطلاقا. كما أشرنا فإن المرة الأولى التى وردت فيها التسمية تعود للقرن الثالث ق.م. مع ملاحظة أن ذلك ورد في أعمال الكاتب الإغريقي. ثالثاً، فإن اللغة المرَّوية المكتوبة نفسها، كما يعترف بذلك آركل نفسهArkell1961لم تكن نوبية؛ بالتالي، يستبعد أن تكون التسمية ترجع إلى عصر المملكة الوسطى. كما وتسقط أيضاً الحجة، التى يمكنها أن تدعم فرضيته- أنهم الأحفاد المباشرين لأهل المجموعة الثالثة.

 

هناك محاولات أخرى لتفسير أصل تسمية البلاد بـ "النوبة". ذلك عن طريق ربط الكلمة بالفعل المصري "نبد" والذي يعني " ضفر"  "جدل"Erman and Grapow، والذي يظهر للمرة الأولى فقط في اللغة المصرية الحديثة (في القبطية نويبت). في مسلة تحتمس الأول من العام الثاني لحكمه، والتي تتحدث عن انتصارات الملك جاء "وحد (حرفياً جمع) هو الحدود من جانبيها الاثنين، ولم يتبق أي من ذوى الشعور المضفورة" Urkunden . في تلك الأسطر ذاتها سميوا بـ نحسي، وسمي قائدهم بـ "زعيم ستيو"، أي، كما أسمى المصريون سكان كوش. بقدر ما قد يغوينا مثل هذا التفسير إلا انه يستحسن انتظار بينة تثبت أننا نواجه نطقاً صدفياً. نادراً ما استخدم المصريون هذا المصطلح بالنسبة لجيرانهم الجنوبيين، وأن تسمية "النوبة"، كما أشرنا، تظهر في وقت متأخر أكثر.

 

على كل فان أول ذكر لبلاد النوبة نجده في أعمال الكتاب العرب. يحتمل أن يكون أولئك الكتاب قد استخدموا الصفة المصرية الشائعة في تلك الفترة للدلالة على المنطقة الواقعة إلى الجنوب من أسوان. فكما أشرنا فانه منذ بداية العصر الهلنستى، إن لم يك في وقت أسبق، عاش في إقليم دنقلا النوبا، ومنذ القرن الثالث الميلادي النوباديون...هذا إذا ما كان النوبا والنوباديون مجموعتين اثنتين مختلفتين. أشار الكاتب ابن سليم الأسواني الذى حُفظ جزء من كتابه في "الخطط المقريزية" إلى أنه وفي أزمانه سُميت المنطقة الواقعة على مجرى النيل بين انحناءته الكبرى عند الجندل الخامس ومصر بالنوبة. وبهذا يكون الأسواني، لا الادريسي، كما اعتقد البعض، الأول من بين الجغرافيين العرب الذى استخدم تسمية النوبة وحدد بدقة المناطق الداخلة في تركيبها.

 

من ثم يجوز التأكيد على أن تسمية النوبة تظهر للمرة الأولى فقط في العصور الوسطى، وتمَّ اشتقاقها في الغالب الأعظم من قبائل النوبا أو النوباديين، الذين وصلت أول إشارة عنهم في القرن الثالث الميلادي. بهذا فإن استخدام تسمية النوبة بدلاً عن كوش لا يتطابق مع الواقع التاريخي، بالإضافة إلى أنه يثير بلبلة فيما يتعلق بالحدود الجغرافية ذلك أنه لم يتم إطلاقا إدخال البطانة في مفهوم النوبة. بالتالي فإن تطبيق اسم النوبة على أزمان مملكة مروى غير صحيح إطلاقاً. إنه حتى في أزمان الادريسي، حين أصبحت تسمية النوبة تفهم بمعنى أكثر اتساعا، فإنها كانت تشمل فقط شمال السودان حتى الجندل السادس جنوباً بمجرى النيل وهو ما يعنى استبعاد الصحراء على ضفتيه والجزيرة المروية(البطانة).

 

اقترح دنهام منذ عام 1946 الرجوع إلى استخدام تسمية كوش للدلالة على إثيوبيا النيلية وذلك استبعادا لسؤ الفهم والبلبلة. وكانت شعوب الشرق الأوسط قد أخذت التسمية عن المصريين كما ألمحنا. ففي مكاتبات تل العمارنة ورد الاسم كاشي وكاشا وفي حالات كوش. وقد أسمى الآشوريون مملكة كوش التى خاضوا ضدها حرباً ضروساً "مانتو كوشي"، وورد ذكرها في الكتاب المقدس باسم "كاش". وفي نقوش ملك أكسوم عيزانا تم التمييز بين الكاسو والنوبا. يحتمل أن يكون عيزانا يشير بالكاسو إلى السكان المستقرين في البطانة. وبانتهاء مملكة مروى أخذ اسم كوش في الإندثار ولم يعد يستخدم إلا في كردفان ودارفور. برغم ذلك نجد إصراراً في الكتابات المعاصرة على استخدام اسمي إثيوبيا والنوبة بديلاً عن كوش، وهما اسمان تعرف عليهما الكتاب الأوربيون منذ أزمان سابقة من أعمال الكتاب الإغريق والرومان ومن الكتاب العرب.

 

يجدر التنويه إلى أن المصريين القدماء استخدموا عدداً من الأسماء التى أطلقها الملوك الكوشيون أنفسهم على بلادهم. على سبيل المثال تسمية "تا سيتي" (أرض السهام) التى استخدمت بداية للدلالة على إقليم محدد من الأطراف الشمالية لكوش. من ثم انتشرت التسمية لتشمل القطر بأكمله. أيضاً استخدمت تسمية "الواوات" للدلالة على الأطراف الشمالية لكوش إلى جانب استخدام تسمية "تا نحسي" للدلالة على كوش ككل، وكلمة "نحسي" للإشارة إلى كافة الشعوب التى تعيش إلى الجنوب من مصر.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اميل لودفيغ، النيل حياة نهر، ترجمة عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1979.

بالنسبة لاستخدام "نموذج" المشيخة في الدراسات الخاصة بتاريخ السودان القديم يمكن الرجوع إلى بحث أوكونور:=

David O’Connor1991, ‘Early States along the Nubian Nile’, in: W.Davies (ed.), Egypt and Africa: Nubia from Prehistort to Islam, London, pp.145-165.

Kaplony P. 1963, Die Inschriften der agyptischen Fruhzeit, Bd. II, Wiesbaden: 679.

Arkell A.J. 1961, A History of the Sudan from the Earliest Times to 1821, 2nd Ed., London: 177, footnote 3.

Wörterbuch der ägyptischen Sprache,… herausgegeben von A.Erman und H.Grapow, Bd II: 246. Berlin.

Urkunden des ägyptischen Altertums’, herausg. Von G.Steindorff, IV. K.Sethe, Urkunden der 18 Dynastie, Liefer. 1-16, Leipzig 1906-1916: 84, lines 6-7.

 

رؤية مجددة في تاريخ السودان القديم

مجلة الآثارمجلة الأنثروبولوجيانصوص ملوك كوشمؤتمرات علميَّةعرض الكتب والدراساتما قبل تاريخ الصحراء الليبية

ملوك وملكات كوشالديانة الكوشيةالكتاب الكلاسيكيونتقنيات البحث الآثاريالثقافات الأفريقيةالببليوغرافياالصفحة الرئيسة


   

 

النصوص المصرية

يظهر اسم كوش وأسماء مصريةأخرى للنوبة في عدد غزير من النصوص الهيروغليفية والهيراطيقية، لكن في الكثير منها كانت مجرد إشارات عابرة. طوال 3.000 سنة بأكملها من العلاقات الفرعونية النوبية هنالك بالكاد نصف مئة من النصوص التى تعني بكليتها أو حتى بشكل أساسي بالشئون النوبية [لمعلومات مفصلة عن النصوص الهيروغليفية والتيتعرضت للنوبة. لقد قصد منها كلها بالطبع الاحتفال بانتصارات ومغانم مصر أو المصريين أكثر من نقل أى وصف موضوعي للأرض الجنوبية، قيمتها الرئيسة موجهة لإعادة إنشاء التاريخ السياسي والاقتصادي. بالنسبة لجوانب أخرى من الحياة النوبية يتوجب علينا أن نقرأ ما بين السطور- ممارسة مريبة دائماً، تتضاعف ارتياباً حينما تنأى الأسطر نفسها عن الصفاء.

 

السجل التاريخي المعروف الأكثر قدماً المرتبط بالنوبة ينتمي إلى فجر التاريخ نفسه.إنه عبارة عن تمثيل صوري وجد على نتوء صخري بالقرب من الشلال الثاني، غالباً ما كان تخليداً لنجاح عسكري حققه فرعون الأسرة الأولى جر (أو زر) على عدو محلي. وجدت نقوش أخرى بمصر تعطي ذكراً موجزاً لحملات عسكرية إلى النوبة في عهد الأسرتين الثانية والثالثة، ومن فترة لاحقة قصيرة هناك مخربشات لمستكشفين وعمال المحاجر في أماكن متعددة بالصحارى النوبية. من الأسرة السادسة يأتي نصان لسيرة ذاتية يحتويان سرداً لعمليات تجارية وعسكرية على حد سواء جرت في السودان. النصان أكثر تفصيلاً من أي شئ سابق لهما، ويبيحان أول رؤية إلى الظروف الثقافية في الأراضي الجنوبية.

 

يكاد ألا يكون هناك سجل كتابي للعلاقات المصرية-النوبية خلال المرحلة الانتقالية الأولى (الأسر السابعة إلى العاشرة) شنت الأسرة الحادية عشر فيما يبدو حرباً متقطعة في الجنوب، واضعة الأساس لفتح النوبة السفلى واحتلالها من قبل الفراعنة الأوائل للأسرة الثانية عشر. وصف حملاتهم وإعلانات السيادة المصرية هي الوثائق العمادية في أمر النوبة في عهد المملكة الوسطى. بعد الأسرة الثالثة عشر يصمت السجل ثانية لزمن معتبر، حتى تتكرر قصة الفتح والاستغلال كأنما كلمة بكلمة في ظل المملكة الحديثة.

 

نصوص المملكة الحديثة (الأسر الثامنة عشر حتى العشرين) تمثل سجلاً كئيباً لعمليات عسكرية في مواجهة سكان بلا قدرة على الدفاع ظاهرياً. ليس أقل من ثمانية ملوك يزعمون أنهم فتحوا أو أعادوا فتح أجزاء من النوبة، مع أن السجل الآثارى يشير إلى احتلال مصري متواصل إلى هذا القدر أو ذاك. بعض هذه الحملات ما كان من الممكن أن تكون سوى غزوات للاسترقاق، متخفية بغلالة تتذرع باستعادة النظام المدني. يثبت آخر السجلات النصوصية للحكم المصري في النوبة استلام جزية في عهد رمسيس التاسع. بعد عهده كان هنالك صمت مجدداً على مدى قرون، إلى حين أخذ النوبيون أنفسهم بتلابيب القصة.

 

معلومات إضافية حول النوبيين المبكرين يمكن الحصول عليها من بينة الرسوم على جدران المعابد والمدافن المصرية. إنها تبين في أكثر الأحيان أسرى وخدماً من الأراضي الجنوبية، الذين يتيسر التعرف عليهم من سماتهم، في حالة الرسوم، ومن لون بشرتهم. من تلك الرسوم ندرك شيئاً عن مظهر الناس وملبسهم، والأدوار التى كان من الممكن لهم شغلها في النظام الاجتماعي المصري.

 

النصوص الهيروغليفية النوبية

النوبيون، أو على الأقل الملوك النوبيين، اغتنموا سانحة في النهاية ليدونوا رؤيتهم الذاتية للتاريخ بعد فتحهم لمصر في القرن الثامن قبل الميلاد. ورث النوبيون كحكام للأرض الشمالية جهاز الدعاية المنمقة الذى كان دوماً تحت إمرة الفراعنة، ولم يتباطأوا في استخدامه. فلئن كانت إعلاناتهم وحولياتهم الملكية لا تختلف في الأسلوب أو المحتوى عن تلك الخاصة بالفراعنة السابقين أو اللاحقين، فإنها تعرض على الأقل، للمرة الأولى في التاريخ، وجهة نظر مؤيدة للنوبيين. كانت على كل قد كتبت عن طريق كتبة مصريين بلغة ورموز مصرية، ولا بدَّ أنها قد وجهت في جزء معتبر إلى جمهور مصري. الكثير منها ما كان وثائق "نوبية" بالمرة، لكنها حوليات حكام نوبيين سيضحون حكاماً على مصر. إنها لا تخبرنا أبعد من ذلك عن الحياة في موطن النوبيين مما تخبر به النصوص المصرية النقية التى يرجع تاريخها إلى أزمان أخرى.

 

من وجهة نظر التاريخ السياسي، من جانب ثانٍ ، تمثل نصوص الفترة النبتية (عصر الحكم النوبي في مصر والقرون التالية) على الأقل الأهمية نفسها التى مثلتها حوليات عهود سابقة. بارزة من بينها لوحة بيَّا، الذى فتح مصر، وتهارقا الذى خسرها. من القرنين اللذين أعقبا تهارقا هنالك ثلاثة نقوش ملكية أخرى ذات أطوال معتبرة، كلها تسترجع أحداث عمليات عسكرية داخل السودان. ورغم أن الملوك النبتيين احتفظوا باللقب الفرعوني المأثور " سيد الأرضين " (أي مصر العليا والسفلى) فإنه لا توجد بينة دالة على كونهم قاموا بأي جهد عملي لفرضه بعد زمن تهارقا. إن لوحة نستاسن، المؤرخة الآن بحوالي 336 ق.م.، هي آخر نص من أصل نوبي متماسك تاريخياً. لا توفر لنا نقوش لاحقة سوى أسماء لحكام، كما وأنه لا يمكن ترتيبها وفق تواتر واضح.

 

من جانب فإنه من حسن الحظ أن الملوك النبتيين اختاروا اللغة والرموز المصرية لكتابة حولياتهم الملكية، إذ يعنى ذلك قدرتنا على قراءتها دون صعوبة. من جانب ثانٍ فإننا حرمنا من أي مفتاح للغة النوبية الأصلية، وبالتالي للهُويَّة الاثنية وصلات القرابة للسكان. في أزمان لاحقة تطورت في الحقيقة لغة أصلية خالصة مكتوبة (المرَّوية)، غير أنها لازالت حتى الآن غير مفهومة للباحثين المعاصرين. لا يبدو أنها لصيقة الصلة باللغة النوبية ولا بأي لغة من اللغات الحالية. لقد وظفت في عدد قليل من النقوش التذكارية، لكنها استخدمت في أغلب الأحيان لنصوص النذور القصيرة واحتمالاً للنصوص التجارية.

 

الكتاب اليونان والرومان

كان هناك الكثيرون من المغامرين والمستوطنين الإغريق في مصر ردحاً طويلاً قبل الاسكندر. كمرتزقة في الجيش المصري، رافق بعضهم الفرعون بسامتيك الثاني في حملته إلى النوبة في القرن السادس قبل الميلاد. المخربشات التى تركوها في معبد أبى سمبل، وفي مكان أو مكانين آخرين، تمثل أول بينة دالة على دخول أي من الأوربيين إلى النوبة.

 

جسدت زيارة هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد نقطة تحول في تدوين التاريخ النوبي والتاريخ المصري على حد سواء. لم يرتحل " أب التاريخ " أبداً بشخصه إلى ما وراء أسوان، لكنه استجمع من المسافرين والتجار وصفاً جغرافياً دقيقاً (بالنسبة له) ومثيراً للعجب عن الأراضي الأبعد بأعلى النيل. إلى اليوم فإن معرفتنا بمملكة مروى تعتمد في قسط منها على بينة هيرودوت، رغم أنه لم يشاهدها مطلقاً. إن عمله هو الأقدم الباقي عن تاريخ النوبة وجغرافيتها الذى يدعي الشمولية أو الموضوعية، مع أنه يمكن أن يكون مسبوقاً بسرد هيكاتيوس المفقود.

 

لا غرو، بالنظر إلى شح المادة المصدرية، أن تكون معظم العروض المأثورة عن النوبة أقوى في جانب الجغرافيا والاثنولوجيا منها في جانب التاريخ. نسخ الكثيرون من مؤلفيها بفيض من هيرودوت، في حين أضاف القليلون منهم تفصيلاً إضافياً ذا أهمية وقيمة. من بين الأخيرين كان سترابو (الذى نسخ وصفه الجغرافي للنوبة إلى حد كبير من العمل المفقود لإيراتوسفين)، وديدور الصقلى، وبلينوس. إضافة إلى وصفهم للأرض والناس، فإن هؤلاء الكتاب يمثلون مصادرنا الأساسية للعلاقات بين البطالسة والنوبيين وبين الرومان والنوبيين. في بداية نهاية الفترة الكلاسيكية قدم ثلاثة من الكتاب صورة عرَّضية لحالة الفوضى التى سادت في النوبة عقب تحلل دولة مروى. السرد المبهم والمتناقض أحياناً الذى قدمه كل من بريسكوس واوليمبيودوروس وبروكوبيوس تمثل مصادر قيمة بالنسبة للتاريخ السياسي، كما وأنها أسهمت بأكثر من نصيبها في الضباب المحيط بمسألة "المجموعة المجهولة" النوبية.

 

وثيقة واحدة تقف متفردة من بين السجلات "الكلاسيكية" عن النوبة. تلك هي وثيقة إعلان نصر حققه الملك النوبي سيلكو في القرن السادس، وهو إعلان نقش بلغة يونانية بدائية غير نحوية على حجارة معبد كلابشة. بالرغم من حجمه المحدود ولغته غير الدقيقة فإنه يمثل آخر نص تاريخي وضع عمداً للسلطة النوبية حتى الأزمان الحديثة.

 

التواريخ الكنسية

كتب مؤرخان مبكران للكنيسة هما جون الأفسوسي وجون البكلارومي، وآخران متأخران هما يوتيخيس وميخائيل السوري، عن تحول النوبة إلى النصرانية في القرن السادس. تختلف رواياتهم في عدد من النقاط الهامة، كاشفة عن تحيز لواحدة أو أخرى من الطوائف الأرثوذكسية المتنافسة آنذاك. مثل النصوص الكلاسيكية المتأخرة، فقد أثارت كتاباتهم جدلاً لازال يلازمنا. الضوء الذى سلطته تلك الكتابات ينحصر إلى حد بعيد في القرن الأول للمسيحية النوبية، ذلك أن العالم الخارجي بعد الفتح العربي لمصر غض النظر عن نصرانية النيل حتى نهاية القرون الوسطى.

 

المؤرخون والجغرافيون العرب

الأعظم من بين المؤرخين العرب، القدامى والمحدثين، كان عبدالرحمن ابن خلدون (أواخر القرن السابع عشر). مع ذلك لم يكن سرده هو الأفضل من بين مصادر القرون الوسطى الخاصة بتاريخ النوبة أو جغرافيتها. تعود مثل تلك الأفضلية إلى معاصر له هو الجغرافي المقريزي. مؤلف المقريزي "الخطط" ليس فحسب مصدراً أصيلاً وهاماً، بل أنه يحتفظ كذلك بمقالة طويلة لزائر أصلي، ابن سليم الأسواني، الذى فقد ماعدا ذلك سرده لنوبة القرن العاشر. تجمع أعمال أخرى للمسعودي، والعمري التاريخ والجغرافيا، وتوفر ترتيباً زمنياً لوقائع العلاقات النوبية مع الخلافة الإسلامية، وفيما بعد مع الأسر المنشقة في مصر. عمل جغرافي خالص هو كنائس وأديرة مصر وبعض البلاد المجاورة ينسب لأبي صالح "الأرميني".

 

هبط ظلام على النوبة، بالقدر الذى نعنى به المصادر العربية، مع الفتح العثماني عام 1520. مع هذا، يبدو محتملاً أن المصادر الخطية لفترة القرون الوسطى المتأخرة بعيدة عن النفاد. الوثائق العثمانية، وحوليات الاستكشاف البرتغالية، وحوليات البندقية، والعروض التجارية، ودوريات رحالة مجهولين ربما تلقى المزيد من الضوء على فترة تظل حتى الآن واحدة من أحلك الفترات في التاريخ النوبي.

 

المصادر الآثارية المادية

أوائل الرحالة الحديثين

في العام نفسه الذى اختفت فيه النوبة وراء "الستار العثماني"، قدمت أرض إثيوبيا المجاورة للوعى الأوربي خلال البعثة التبشيرية الأولى من بعثات برتغالية عديدة. في هذا الزمن يأتي الضوء الخافت عن النوبة من الجنوب أكثر منه من الشمال. إن سرد الآباء اليسوعيين لا يقول سوى القليل عن الأحداث على النيل، لكنه يكاد يكون كل ما نملكه عن قرنهم.

 

في بداية القرن الثامن عشر سار مع النيل صعوداً رحالتان جسوران، الفرنسى بونسيه والألمانى كرمب، من القاهرة، الأول إلى حدٍ بلغ إثيوبيا والثاني إلى بعد بلغ سنار.بنهاية القرن صعد جيمس بروس عبر الطريق نفسها. أسرع كل هؤلاء باختراق ما عدوه أرضاً غير مضيافة في أعالي النيل، وقد تركوا لنا خطوطاً عريضة عاجلة من المناظر على امتداد الطريق. لقد كان الرحالة الدارسين العظماء الذين ساروا في صحوة احتلال فتح محمد على الذين أدخلوا مدلولات العصر الحديث في التاريخ النوبي. كان من أبرزهم كل من بوركهاردت، ووادنجتون وهانبري، وكايو، ولينان دى بلفوند، وبعد جيل لاحق، هوسكنز، ولبسيوس. كانت عروضهم الضخمة المدعمة بالرسوم التوضيحية بغزارة هي نقطة البداية لتاريخ مستمر للنوبة يمتد حتى أزماننا الحالية.

 

المصادر الآثارية

حفنة أعمال التنقيب الآثارى التى أجريت في النوبة فيما قبل 1907كانت إما عمليات تنظيف صممت للكشف عن نقوش هيروغليفية، أو منشئات معمارية، أو بوضوح مجرد اصطياد كنوز. عملياً فقد أصبح علم الآثار متسقاً خطة وإجراءً مع جورج ريزنر والمسح الآثارى الأول للنوبة، الذى أصبح ضرورة بفضل توسيع خزان أسوان الأصلي (الذى كان قد شيد في الأعوام 1898-1902 والذي شهد توسعاً أولاً في 1908-1910). في ذلك الوقت كان التحدي الذى تمثله عملية إنقاذ الآثار (أي التنقيب المنهجي المنتظم غير المتحيز بالنسبة لكافة المواقع المهددة بالدمار) غير مشهود في السابق. وجد ريزنر نفسه مضطراً إلى تطوير منهجه أثناء سير عمله. وجدت بعض إجراءاته ، مثل استخدام نماذج معيارية لتسجيل المعطيات، قبولاً عالمياً منذ ذلك.

 

المسح الآثارى الأول

دام المسح الآثارى الميداني الأول لأربعة مواسم ، من 1907 إلى 1911. تمَّ استكشاف خمسة وتسعين ميلاً من وادي النيل بين الشلال ووادي السبوع. أشرف ريزنر على المسح في الموسم الأول ومن ثم تولى فيرث الإشراف في الثلاثة مواسم اللاحقة. بحساب المسح فقد تم التنقيب في 151 جبانة وما يزيد على 8000 مقبرة فردية. تمت دراسة نصف دستة فقط من مواقع أخرى غير جبانات، واحد منها فقط درس بقدر من التدقيق. هذه النتائج، وبصورة أكثر تحديداً أعمال الموسم الأول، مثلت قاعدة المعطيات التى بنى عليها ريزنر واللاحقين إعادة تركيب التاريخ النوبي.

 

تبرز خاصتان في عمل المسح الآثارى الأول: أولاً، لقد كان مكرساً لبقايا جنائزية بما يكاد يستبعد أية بينة آثارية أخرى، وثانياً، التركيز المخل على المراحل المبكرة للتاريخ النوبي. الخاصتان كانتا إلى حد ما متعمدتين. إن ريزنر وفيرث لم يرتابا في أن البينة الكتابية ستؤثث الصورة الأساسية للمراحل التاريخية اللاحقة، وكان اختيارهما للمواقع المخضعة للدراسة قد اعتمد المبدأ الذى يركز على المراحل المعروفة بصورة أقل. علاوة على ذلك، فإنه حتى عام 1907 كان من المأخوذ به أن القاعدة الأولى لكل علم للآثار- بما في ذلك الأعمال الإنقاذية- هو الكشف عن الموضوعات المنقولة (القابلة للعرض). كان تنقيب المواقع الحية وتسجيلها عملية عرَّضية وثانوية أغلب الأمر (هناك، رغم هذا، مسح معماري وابيجرافي لمعابد النوبة جرى في الوقت نفسه). عبَّر فيرث مرة أو مرتين عن أسفه بأن ضغط الوقت لا يسمح لفرقه الميدانية بفحص بعض المدن الأطلال التى لاحظوها على امتداد الطريق Firth لكنه لم يفكر أبداً بجدية في مسألة أن الدراسة التفصيلية لهذه الأطلال المدن قد يستحق الأولوية على الحفر المتواصل للقبور والجبانات التى كانت تيبولوجيتها قد أصبحت معروفة بحلول ذاك الوقت. هذا المدى للأولويات نفسه تمَّ تبنيه من قبل علماء الآثار اللاحقين وأثر على معالجتنا للتاريخ النوبي إلى يومنا هذا. كمحصلة، كثيراً ما يبدو لنا أننا نعرف أكثر عن كيف مات النوبيون الأوائل مما نعلم كيف أنهم عاشوا. تقدم معالجة الآثار المسيحية ضوءاً جانبياً مثيراً للاهتمام في عمل المسح الآثارى الأول. في الأسابيع الأولى للحملة التمهيدية نقب فريق ريزنر في كل الألف وستمائة خمس وعشرين مقبرة في جبانة مسيحية بالقرب من الشلال- وهو عدد من المقابر أكبر بكثير مما جرى التنقيب فيه لاحقاً في جبانة لأي فترة Reisner. لقد كانت المقابر بالطبع خالية من أي قرابين، حيث أن وضع موضوعات في القبر ما كان سمة للممارسة الجنائزية المسيحية. بعد هذه التجربة المحبطة لم بفتح المسح أبداً أي عدد مهم من القبور المسيحية ثانية، وفي المواسم الأخيرة فإن وجود تلك المقابر لم يسجل بصورة منتظمة. عدت المقابر المسيحية جنباً إلى جنب مع المقابر الإسلامية منتمية إلى فترة فقيرة للغاية وحديثة بحيث لا تثير الاهتمام. تحديداً لكون علم آثار النوبة المسيحية لم يكن " علماً للآثار الجنائزية " لم يسهم أي من المسحين الأول والثاني بأي شئ ذي قيمة بالنسبة لفهمنا لطور هذه التسعمائة عام من التاريخ النوبي.

 

كان الإنجاز البين للمسح الآثارى الأول يتمثل بلا شك في الكشف عن والتعرف على المجموعات الثقافية الأولى والثانية والثالثة والمجهولة غير المسجلة من قبل، وترتيب تلك الثقافات مثلها مثل الثقافات النوبية المعروفة تاريخياً في تعاقب منتظم. بصورة ما تمَّ إنجاز ذلك منذ البداية. بقايا الأربع مراحل كلها (وفي الواقع لكل فترة تقريباً من فترات التاريخ النوبي) وجدت في الجبانة رقم 7 في الشلال التى اكتمل التنقيب فيها في الأسابيع العشرة الأولى للحملة المبدئية. لذلك يمكن وصف هذه الجبانة بأنها مثلت قاعدة للمعطيات النهائية التى تقوم عليها التواريخ الحديثة للنوبة.

 

نشرت التقارير المبدئية عن المسح في شكل "نشرات" صغيرة ظهرت في غاية من التعجل أثناء كل موسم وبعده. تمَّ تعريف المجموعات الأولى والثانية والثالثة (فقط كأشكال للقبور) في النشرات الباكرة، واقترح رسمياً التواتر الكامل للأطوار (التى تتطابق الآن تحديداً بجماعات سكانية) في الصفحات الافتتاحية للنشرة الثالثة التى صدرت في عام 1909. بعد عام لاحق كرس ريزنر التقرير الأول لمسح آثار النوبة (1907-1908) لتعريف ومناقشة كل طور من أطوار الثقافية النوبية. وقام فيرث بتكرار المناقشة وتجديدها في كل من التقارير الثلاثة اللاحقة، إلا أن الأسس الانطلاقية التى ثبتها ريزنر ظلت غير متغيرة.

 

لا بدَّ من إضافة أنه لا النشرات ولا التقارير لا تمثل بحال سروداً شمولية لعمل المسح الآثارى الأول. بعض المواقع لم توصف أبداً في ما تمت طباعته، وفي حالات كثيرة نظل نجهل الحجم الذى أنجز وما لم ينجز. في العقد الأول للقرن العشرين كان التسليم بالتوثيق والنشر كجزأين حيويين من مهام عالم الآثار بادئاً لتوه.

 

مساوقة للمسح الآثارى، لكنها مستقلة عنه، أجريت دراسات في معمار المعابد الفرعونية والبطلمية- الرومانية ونقوشها في المنطقة المهددة. تولى هذا العمل بلاكمان، وفوتير، ورويدر، ونشر في سلسلة من المجلدات تحت العنوان الجمعي معابد النوبة الغارقة

 

بعثات رائدة أخرى

خمس بعثات أخرى ولجت الحقل النوبي خلال عام أو عامين من المسح الآثارى الأول. عملت بعثات جامعة بنسلفانيا، وجامعة أكسفورد، وأكاديمية فينا للعلوم في النوبة السفلى إلى الجنوب من المنطقة التى يهددها الخزان الواطئ. بعيداً صوب الجنوب، بدأت بعثة مروى في الكشف عن المدينة الملكية التى تحمل ذلك الاسم، واستطلعت حفريات ولكام بقايا ما قبل تاريخية في الجزيرة بين النيلين الأزرق والأبيض. باستثناء بعثة فينا، دعمت كل هذه الحفريات عمل المسح الآثارى في جانبين مهمين. أولاً، أولت اهتماما أكبر للبقايا المعمارية، المنزلية منها والصروحية أكثر مما فعله المسح. ثانياً، كانت كلها معنية بقدر معتبر ببقايا الفترة المروية، التى كانت غير ممثلة في الشمال الأقصى للنوبة ولم تظهر بالتالي في أعمال ريزنر وفيرث. قامت بعثتا أكسفورد وبنسلفانيا بتقديم أول إسهام هام لدراسة الآثار النوبية  المسيحية، مجدداً على أساس معماري أكثر منه مخلفات جنائزية. خلال السنوات نفسها كان المهندس المعماري سومرس كلارك يقوم بمسح البقايا المسيحية فيما بين الخرطوم والقاهرة ويمثل مؤلفه الآثار المسيحية القديمة في وادي النيل العمل الرائد في هذا الميدان.

 

في عام 1913 عاد ريزنر إلى النوبة بعد غياب دام عدة سنوات، هذه المرة مديراً لبعثة هارفارد-بوسطن، وهى بعثة مشتركة بين جامعة هارفارد ومتحف بوسطن للفنون الجميلة حازت ترخيصاً للتنقيب كاد أن يكون احتكارا فعلياً للبقايا الآثارية الهامة في السودان الشمالي. خلال الثمانية عشر عاماً التالية أجريت الدراسات تقريباً في كل المواقع الصروحية التى يرجع تاريخها إلى الفترات الأسرية في التاريخ النوبي (فرعونية، ونبتية، ومرَّوية). يقع عمل البعثة تحت ثلاثة عناوين رئيسة:

1. تنقيب المركز التجاري المصري الكبير والجبانة الملكية النوبية في كرمة. أنجزت هذه المهمة بين الأعوام 1913-1916 ونشرت ضمن سلسلة دراسات هارفارد الأفريقية. إن معرفتنا لثقافة كرمة ما انفكت قائمة بما يقرب الكلية على هذه التقارير.

2. التنقيب في العديد من القلاع الهائلة في منطقة الشلال الثاني، المشيدة أصلاً في عهد المملكة الوسطى وتعرضت للتوسيع في ظل المملكة الحديثة. أجرى هذا العمل بصورة متقطعة طوال سنواتعدة تحت إشراف مديرين مختلفين. لم تظهر النتائج إلا منذ وقت قريب للغاية فقط في المجلدين المعنونين قلاع الشلال الثاني Dunham.

3. التنقيب في الجبانات الملكية النبتية والمروية، ومعابد مرافقة معينة بجوار كريمة وفي مروى.

 

جسدت تلك الأعمال بلا شك عمل ريزنر الطليعي في السودان. بفعل ذلك العمل أعاد ريزنر تركيب تعاقب الأسر الملكية النبتية والمروية وهو التركيب الذى لازال بمثل الإطار الأساسي للتسلسل الزمني (الكرونولوجى) لمناقشة هذه المرحلة من التاريخ النوبي. مرة أخرى لم تنشر النتائج الملموسة الرئيسة إلا بعد مضى وقت طويل على وفاة ريزنر في رتل من المجلدات التى تحمل رسوماً ولوحات توضيحية رائعة. وقد قام دنهام بإعداد تلك المجلدات التى نالت عنواناً جمعياً: جبانات كوش الملكية.

 

ما كانت الحفريات في السودان سوى جزء ثانوي من عمل بعثة هارفارد- بوسطن منذ بداية تنظيمها في عام 1905 حتى وفاة ريزنر بعد ما يقرب من أربعين عاماً لاحقة، استحوذ اهتمام البعثة أولاً وبالقدر الأكبر التنقيب في مقبرة المملكة القديمة بالجيزة، في ظل الأهرام الكبرى. أجريت الأعمال في السودان في الوقت نفسه على أفضل ما يمكن. أكثر الأحيان أنجز العمل في النوبة في وقت متأخر من الموسم، بعد الفراغ من العمل في مصر. كانت أعمال التنقيب في النوبة على أي أكبر جسم من العمل الآثارى المتسق الذى أنجز في النوبة العليا، وستظل نتائجها تؤلف دوماً العامود الفقري للدراسات في تاريخ نبتة- مروى.

(Nubian cultural Society In France)